الاثنين، 15 سبتمبر 2008

أنموذج من الوجود الصوفي في المشرق العربي
الشيخ علي اليشرطي الصوفي المجدد


بقلم : الدكتور وفاء أحمد السوافطة




مقدمة


يتبوأ التصوف الإسلامي قطاعاً ثريّاً مِن الفكر، إذ إنه عبّر عن مرحلة من مراحل التطور الفكري الذي وصلت إليه العلوم الدينية، في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، حين أصبح التصوف لدى العديد من الباحثين والمفكرين هو العمق الروحي للدين الإسلامي، حتى إننا قلّما نجد مفكراً من مفكري الإسلام، خلا فكره مِن هذا العمق الروحي للإسلام[1]. وقد تطوّر الفكر الصوفي، ذاته، إثر مخاضاتٍ وتفاعلاتٍ داخلية، إضافة إلى تمازجات الفكر الإسلامي مع الثقافات المجاورة، متجاوزاً مرحلة (الزهد والتقشف) التي بدأ بها، ليتضمن، في (المرحلة الفلسفية) اللاحقة، مفاهيم أخلاقية ومعرفية وكلامية. ثم، لظروفٍ سياسية واجتماعية أخرى، وصل التصوف الإسلامي إلى (المرحلة الطُرقية)[2].
وقد تكاثف ظهور الطرق الصوفية، فيما بعد، استجابة لتحديات مختلفة، وتحقيقاً لأهداف متنوعة؛ إذ جاءت تلك المرحلة بعد تطورات فكرية، وتفاعلات وجدانية، أثبتت أن الاجتماع الإنساني، أو العمل الجماعي أمرٌ حتميّ؛ وعمّقت، كذلك، مفهوم التعددية في الاجتهاد، وحق الاختلاف في مناهج السلوك.
وهكذا، وجد أتباع الطرق الصوفية الحديثة، في العمل الجماعي، تحقيقاً لعدة أهداف، منها :
· مواجهة التمزق والتشرذم الذي كانت المجتمعات الإسلامية تعاني منه.
· الخروج من دائرة الحوارات الفلسفية والكلامية إلى الدائرة المدرسية التطبيقية للعلوم الصوفية.
· توليد (طرح) جديد يقترب كثيراً من النبض الإنساني، بعد أن وسّع بعض الفلاسفة الهوّة ما بين الفكر والتطبيق، باستغراقهم في المسائل الكلامية والمعرفية، على حساب الجوانب التطبيقية والتربوية، وبعد أن انشغل بعض المتصوفة بالتجارب الفردية الكرامية [3]عن هموم الجماعة والأمّة.
· مقاومة الطغيان الاستعماري العسكري والثقافي على الساحة العربية والإسلامية. إذ فرض ذلك، على التصوف، الدخول في نمط جديد من الجهاد الجماعي الطُرقي، بدأ مع الزحف الصليبي في القرن السابع الهجري (13م)، والاستعمار الغربي في القرن الهجري الثالث عشر (19م).
وعلى الرغم من التفاوت، الذي ظهر فيما بعد، بين المدارس والمناهج الصوفية، كالجنيدية المعتدلة والحلاجية الشطحية[4]، فإن المرحلة الطرقية، التي أظهرت لنا العديد من الطرق الصوفية، أصبحت مرحلة مميِزة للتصوف الإسلامي، في كافة المناطق التي وُجد فيها. إذ تراوحت المدارس والطرق الصوفية بين الانجذاب لأقصى يمين (النص الشرعي)، أو الانجذاب لأدنى يسار (النص الفلسفي)، أو التمسك بالوسطية والاعتدال. وتراوحت، كذلك، بين الاستجابة للغة الخاصة الإشارية المُلَغَّـزَة، أو الاستجابة للغة الحسّ الشعبي المبسّطة، حتى اتفق الباحثون على وسم بعض تلك الطرق بالأصولية، أو بالاعتدال، وبعضها الآخر بالتطرف.


الشيخ علي نور الدين اليشرطي

وفي ذات العصر الذي لمع فيه نجم كثير من المصلحين الإسلاميين، ودعاة التقدم والحضارة، أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وطه حسين ورفاعة الطهطاوي، أغفل المؤرخون جانباً مهماً من جوانب الإصلاح الديني، هو ذلك الإصلاح الذي طال التصوف الإسلامي وبعض طرقه المتعددة.
وقد كان الشيخ علي نور الدين اليشرطي واحداً من شيوخ الطرق الصوفية الذين حملوا على عاتقهم مهمة التجديد والإصلاح في الفكر الصوفي، في الفترة التي امتدت ما بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين(1850-1900م)، وكان لمدرسته التي انتشرت في بلاد المشرق العربي، وامتد تأثيرها ليشمل شمالي إفريقيا وجزر القمر والأمريكتين وكندا.

مولده ونسبه

في إيالة تونس الغرب، ولد الشيخ علي نور الدين بن محمد بن يشرط، التونسي الشاذلي "الحسني الإدريسي"، إذ ينسبه بعض الذين أرخوا له إلى سيدنا إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن سيدنا علي بن أبي طالب[5]، وكانت ولادته في مدينة بنزرت لأبوين صالحين، إذ تقول ابنته، السيدة فاطمة اليشرطية، إنه ولد سنة (1208هـ/1794م)[6].
واعتبِر رشيد الذوادي الشيخ علي اليشرطي من أعلام الدولة الحَسَنـيّة، في تونس، التي امتد حكمها 259 سنة، إذ ولد زمن حمودة باي (1196-1229هـ/ 1782-1814م)[7]. كما يذكر البيطار[8] أن والده " أحـمـد بن يشرط"، [والصحيح محمد بن يشرط] [9]، ينتسب إلى بني يشرط، وهي قبيلة بالمغرب، "قـيل" إنها تنتسب إلى سيدنا الحسن بن علي؛ وأنه كان قائداً كبيراً في الجيش التونسي[10].


البيئة المحيطة بالشيخ


لقد تأثر الشيخ علي اليشرطي بالبيئة التي ترعرع فيها. فهو، أولاً، ابن "عميد آل يشرط، أحد وجوه مدينة بنزرت وسَراتها، أصحاب المكانة في الهيئة الاجتماعية " [11]؛ وثانياً، فإن والدته، وهي السيدة مريم تاجرية، كريمة السيد عبد الله الحسيني، كانت قد نالت – بحسب فاطمة اليشرطية – قسطاً وافراً من الثقافة، في عصرٍ قلّ فيه تعلّم المرأة[12]. وقد أنجبت سبعة من الذكور والإناث، مات منهم ثلاثة في سن الطفولة، وعاش أربعة إلى أن بلغوا سن الشباب، ثم ذهبوا ضحية وباء (الريح الأصفر) في أسبوع واحد. ولما بلغت سـن الكهولة وكاد الحزن واليأس يقضيان عليـها، حملت بالشيخ اليشرطي[13].
وهكذا، فإن ولادة الشيخ اليشرطي كانت في مرحلة متأخرة. وكونه وحيداً لأبويه، عزز تميّزه منذ الصغر، وضاعف اهتمام والديه به؛ فحفـّته العناية الأبوية، وتناولته أسرته بالتهذيب والتربية. فاشتهر عن شخصيته الشفافية، وميلُه للتفكّر والزهد، وعطفُه على الإنسان والحيوان، حيث تروي ابنته فاطمة أنه، في ربيعه الخامس، كان لا يلهو مع أترابه الأطفال، ولا يلعب. "وكثيراً ما كان يفر من والدته، فتجده جالساً فوق جذع شجرة كبيرة في الدار، معتكفاً [ عاكفاً ]على ذكر الله"[14]. ويشير الذوادي [15] إلى تأثر الشيخ اليشرطي بهذا الاهتمام المتزايد من والديه، مما عمّق شفافيته تجاه الأحداث حوله. فيقول إنه كان يحدوه عطف والده الحاج أحمد [ محمد ]. ويشير، كذلك، إلى مجموعة أحداث انطبعت في ذهن الشيخ، أثناء صباه، وكان لها عميق الأثر في ميله نحو العزلة، وبالتالي نحو التصوف، وأول هذه الأحداث كان: الهجوم الذي شنّه الثائر الليبي علي برغل على جزيرة جربة، وكيف أمكن له أن يستولي عليها قبل أن يتصدى له حمودة باي، ويخرجه منها عنوة عام 1795م. وكان ثاني هذه الأحداث، التي آلمته وانطبعت في نفسـه، ما شاهده، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، من نزوح قسري لعائلات جزائرية كثيرة إلى بنزرت، إثر الاستعمار الفرنسي لها عام 1830م، مثـل عائلات العنابي والسعيد والقاسمي والشريف... وغيرهم [16].
وفي تلك الفترة،كذلك،تابع الشيخ علي اليشرطي محاولات أحمد باي (1253-1271هـ/1837 – 1855م ) لإدخال إصلاحات هامة في المجال المالي، لإعفاء السكان من المساهمة في نفقات الجيش. وأمكن له أن يرى إعلان الأمان من طرف محمد باي عام 1857م، والفترة التي أبطل فيها الصادق باي العمل بهذا الدستور إثر رجوعه من الجزائر[17]. كما بلغته المحاولات الإصلاحية التي قام بها الوزير خير الدين التونسي، طيلة حكم خير الدين، رغم ما واجهه من صعوبات، فكان متحمساً لأعمال خير الدين، ومشجعاً لبث أفكاره[18].
وقد أثّرت كل تلك الأحداث المؤلمة على الشيخ علي اليشرطي، مما دفع الذوادي للربط بين تلك الأحداث وبين ميله للتصوف والعزلة، الذي يتخيله بأنه بدأ شعوراً بالضيق النفسي، يقول الذوادي: " فأصبح يشعر أحياناً بالضيق النفسي، فينطوي على نفسه، ويعتزل المجتمع وينصرف إلى العبادة، والمطالعة، أو الهجرة والبعد عن الأهل والديار"[19]. لكننا لا ننسى الثقافة التي حصّلها الشيخ اليشرطي، والتي كانت تصبّ في اتجاه ديني، صوفي. فقد تلقّى تعليمه في بنزرت، أولاً، ثم التحق بجامع الزيتونة في تونس، حيث حضر كثيراً من الدروس هناك.
ويُذكر أن طلبة العلم في مدارس تونس، في تلك الفترة، كانوا يقيمون خمس سنوات في سكن الطلبة؛ وكانت تدرّس عليهم كتب، من نحو: عمدة أهل التوفيق والتسديد في شرح عقيدة أهل التوحيد لأبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني (ت895 هـ)، والعقائد النسفية لأبي حفص نجم الدين محمد النسفي ( ت537هـ) [20].
وقد اشتغل الشيخ اليشرطي، في بداياته، بالتدريس في بعض المدارس الثانوية التي كانت تعج بها العاصمة تونس، آنذاك، فدرّس التفسير، والحديث، والأصول، والتشريع، والمنطق، والكلام، وغيرها من المواد والعلوم [21]. ثم، وفي وقت مبكّر، مالت نفسه للتصوف، وانقطع عن أي شاغلٍ، أو عملٍ، يباعد بينه وبين هدفه. فترك التدريس، كما تذكر ابنته، "إذ لم يكن له عمل دنيويّ قط. فجعل شغله مودّة أهل الله"[22].

تصوف الشيخ اليشرطي

وقد قادته محبته لأولياء الله إلى خدمة الكثير من الصالحين. و"صحب كثيراً من العلماء والفقهاء والفضلاء والأشياخ ورجال الله. وكان يجلس في حلقات كلٍّ من هؤلاء وهؤلاء. وإذا ذُكر أمامه عالِم كبير أو شيخ بصير أو رجل من أهل الله، كان لابد من أن يقصده ويتصل به"[23].
وقد أدى به ذلك إلى سلوك عدة طرق صوفية، سعياً منه لمعرفة صاحب الوقت، أو قطب الزمان. فكان يصل إلى مقام الشيخ الذي يأخذ عنه. ومن هذه الطرق، التي تذكر ابنته أنه سلكها، الطريقة العيسوية التي يرجع أصلها إلى الطريقة الجزولية الشاذلية، وهي تنسب إلى الشيخ محمد بن عيسى الفهدي السفياني المكناسي (ت 933 هـ/ 1527م )
[24]، الذي قاد الشيخ اليشرطي، عن طريق الرؤيا، إلى طريقة الشيخ محمد حسن بن حمزة ظافر المدني[25] (1194-1268هـ / 1780-1852م)[26]، الذي أخذ الطريقة الشاذلية عنه. أما الطريقة المدنية فقد توصّل الشيخ اليشرطي إليها عن طريق أحد أنسباء الشيخ المدني، وهو الشيخ أحمد عبد الوارث الحسَني[27]. فلما التقى الشيخ علي اليشرطي بالشيخ المدني، في مدينة مصراطة - من أعمال ليـبـيـا - تجرّد لخدمته وتلقّى التصوف عنـه[28]. ولما وجد شيخه فيه الأهلية، أجازه إعطاء الطريقة المدنية لمن يراه أهلاً ؛ أي جعله مقدّماً على الجماعة، "ولم تزل مرتبته تتعالى، وخوارقه في الطريقة تتوالى، إلى أن تأهّل للإرشاد..."[29].

رحلته نحو الشرق

ويبدو أن حالة التصوف المغربي، في تلك الأثناء، لم تكن تشجع على البقاء هناك، بسبب تدهور الأوضاع السياسية، كما سبق وذكرت، إضافة لما كان يشكّله الشرق من جذب للطاقات الروحية المغربية، حيث الحنين إلى منبع الدين والتصوف.
لقد كره الشيخ اليشرطي العيش في بلاده، بعد فساد الأوضاع السياسية في عهد الصادق باي، فأراد أن يعيش حراً طليقاً في معتقده وفكره، حيث تُحتَرم الأفكارُ والآراءُ، فسافر إلى الحجاز. وتذكر السيدة فاطمة اليشرطيـة، سبباً آخر لرحيل والدها عن البــلاد، هو صدور الإذن الإلهي له بالسفر إلى الشرق، وهو ما وافق رغبته في تحمّل أعباء الدعوة لطريق الله، في غير تلك الأرض، بعد أن فقد هناك شيخه وأمه[30].

وقد اختار أرض المشرق، فرحل إلى الحجاز، بعيداً عن أولاد شيخه الذين تولوا مشيخة الطريقة المدنية بعد والدهم، وخاصة، الشيخ محمد بن محمد بن حمزة بن ظافر المدني. ولكنه ظل يكن لأبناء شيخه
مشاعر الودّ والاحترام، إذ تقول فاطمة اليشرطية عنهم: " كان لا يذكرهم إلا بالتعظيم والاحترام، ويغرس في قلوب مُريديه وأتباعه حبهم واحترامهم. ثم، هو يرفض أن يبايعه أحد من مريدي شيخه، أو ممن بايع أولاد شيخه"[31].

مكة ... عكة

وبعد رحلة حج طويلة إلى مكة، جاور خلالها عند روضة النبي، في المدينة المنورة، أربع سنوات، كان خلالها يؤدي فريضة الحج في كل سنة[32]. ثم استقر المقام بالشيخ علي نور الدين اليشرطي في مدينة عكة[33] على الساحل الفلسطيني. وكانت عكا، في تلك الفترة التي وصل إليها الشيخ اليشرطي، أي سنة 1266هـ /1850م، تكتسب أهميتها من كونها مركزاً لقيادة الجيش التركي في سائر فلسطين، وبالتالي سكنها كثير من أمراء الجيش وضباطه والحكام المدنيين. كما أنها كانت من المدن التي يرسل إليها المبعدون السياسيون. وهذا يعني أن الفسيفساء، التي كانت تشكّل اللوحة العامة لسكان المدينة، كانت تشتمل على علية القوم، من أدباء، ووزراء، وعلماء، ومشاهير، ومبعدين سياسيين. يضاف إلى كل ذلك ما كانت تتمتع به المدينة من أهمية تجارية، حيث كانت عكا، في ذلك الوقت، تُـعدّ من أعظم الثغور على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إذ كانت تفد إليها البضائع التجارية من كافة أنحاء العالم، عدا المؤن والذخائر الحربية التي كانت تنقل إليها براً وبحراً [34].
لكن عكا لم تكن ذات أهمية عسكرية وتجارية، فقط، بل كان تاريخها الحافل بالنضال ضد الغزاة والمعتدين، يشكل حولها هالة من العظمة والتقديس، في قلوب أهلها، وأهل المدن المجاورة؛ إذ إن من المعروف، تاريخياً، أن حصونها قهرت أعتى الجيوش والحملات العسكرية، كجيوش نابليون بونابرت. وقد نسج هذا التقديس حولها مجموعة من الموروثات الشعبية التي كانت تبالغ في رواية القصص والآثار، وحتى الأحاديث النبوية، التي جعلت من المدينة ذات ميزة متسامية، على غيرها من المدن الفلسطينية، تكاد تقترب من قدسية بيت المقدس. وهذا الموروث الشعبي يشكل أهمية للباحث، أكثر مما هو الواقع الحقيقي للأحداث، لأن كثيراً من الأحداث كانت توجهها، وتتحكم في مسارها مثل هذه الموروثات والمأثورات. فقد كان لكثير من الأحاديث النبوية التي وضعت حول عكا، دورٌ بارز في تأجيج روح الجهاد والدفاع عن المدينة في وجه الغزاة الطامعين. ولعل أبرز هذه الأحاديث، ما أسند إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من قوله: {طوبى لمن رأى عكة}. وكذلك، قوله، صلى الله عليه وسلم: {مدينة بين الجبلين، على البحر، يُقال لها عكاء؛ من دخلها، رغبة فيها، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ومن خرج منها، رغبة عنها، لم يبارك الله في خروجه؛ وبها عين تسمى عين البقر، من شرب منها ملأ الله بطنه نوراً، ومن أفاض عليه منها كان طاهراً إلى يوم القيامة} [35].
وقد أعطى للموقع هذا التمييز، عند أتباع الشيخ اليشرطي ومريديه، أن اختيار مدينة عكا مركزاً للطريقة الشاذلية اليشرطية خضع لإرادة إلهية، وتحكّمت فيه عوامل المشيئة والقدرة. ولهذا، قصة تتردد على لسان كل فرد من أفراد الطريقة اليوم؛ حيث تذكر السيدة فاطمة اليشرطية أن والدها قضى أربع سنوات مجاوراً في الحجاز، ثم توجه لزيارة ضريح أبي الحسن الشاذلي في مصر. وفي طريق عودته من المدينة المنورة في الحجاز، قصد لزيارة القدس الشريف، عن طريق ميناء مدينة يافا. وبعد أن ركب البحر من ميناء الإسكندرية هبّت عاصفةٌ شديدة، وهاج البحر هياجاً عظيماً، فلم تتمكن السفينة من الوقوف أمام ثغر يافا. وجذبتها الرياح إلى شاطئ البحر، ما بين بيروت وصيدا، أمام ضريح النبي يونس، عليه السلام، حيث خاطبه روح النبي يونس قائلاً له: (يا علي! مكّن الحربة في عكا). ومن هناك، توجّه إلى عكا، بطريق البر." وما إن شارفها، ووقف في برّيتها، أمام مقام النبي صالح… حتى كان على علم بأمر الله تعالى، وأن هنا الـمُقام، وهنا مشرق أنوار الولاية الكبرى…"[36].
وعلى الرغم من أن مناخ مدينة عكا لم يناسب الحالة الصحية للشيخ اليشرطي، بسبب الرطوبة العالية، مما اضطره لتركها مؤقتاً إلى قرية ترشيحا، آنذاك، وهي إحدى البلدات الجبلية المتاخمة لعكا [37]؛ إلا أن النظرة إلى عكا ظلت، ولا زالت، تحتل ذلك البُعد الروحي، في نظر أبناء الطريقة الشاذلية اليشرطية، وبخاصة بعد بناء الزاوية اليشرطية فيها.
وقد عبّر شعراء اليشرطية عن هذه المكانة المتميزة للمدينة في أدبياتهم، حيث وصف الشيخ عبد القادر الحمصي (ت 1314هـ/ 1896م )، وهو أحد أهم شعراء الطريقة في دمشق، مدينة عكا بأنها تحتل مكانة خاصة، ذات دلالات روحية، يكتشفها المريد بعد تقرّبه من الحضرة المحمدية، وامتلاكه مُكنات الشهود والمعرفة اليقينية، حيث يقول، حاكياً عن الحضرة المحمدية إنها اختصّته بالمعرفة، ونفت عنه الجهل، فاستحضر تجارب من سبقه من الأنبياء:

قربتني بعد بُعدي، للمُنى عرفتـني بعد جهلي من أنا
أشهدتـني دار عكا ومنى وبنت في طور سينا منـزلي[38]

وقال الشيخ الحمصي،في موضع آخر، مذكّراً بأن اتخاذ الشيخ اليشرطي مدينة عكا مستقراً له أحالها مِن سجن للمعتقلين والمبعدين إلى جنة روحية للعارفين:

يا طائر البان،هلا منك لي خبرٌ عن آل ذاك الحمـى،يا طائـــر البان
كانت منازلهم للسجن محدَثةً فأحدثـوها فصارت دارَ رَضوان[39]

وقال آخر، وهو الشيخ نصوح الجابري، وهو أحد مريدي الشيخ علي نور الدين اليشرطي، من حلب في سوريا، أيضاً:
صاح، إن ضامك الزمان، فيمم باب غوثٍ تهوي لـه كل جبهة
وتوجّه لليشرطي، وقبّل ثغر عكا، فإنها خيرُ وجهة[40]


وهاهو شاعر آخر من شعراء الطريقة، وهو توفيق عزيز الصفدي، يصرح بأن حلول الشيخ اليشرطي بمدينة عكا، قد أفاض عليها هالة من التقدير والتمييز. بل إنه يرى أن كل من يزور هذه المدينة، ويؤم مقام شيخه، إنما يغسل كل ذنوبه وأوزاره، شريطة أن يخترق حجب البشرية، ليصل إلى الأسرار والأنوار التي تضمنتها ذات الشيخ (الكعبة)، يقول:

عكا الـمـُنى عكا المنى كلُ الهنا فيها
تشرفت بعلي، الله يهنيها
يا (كعبة)، كل من قد حجها أو زار لم يبق ذنب عليه، لا، ولا أوزار
والقصد أن يشهـد الأسرار والأنوار مستغرقاً، دائماً، بل هائماً فيها


ملامح التجديد اليشرطي


مثلما تميّز عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالخطوات الأولى لجمع القرآن، وعصر الصحابة بالبدء بجمع الحديث، وعصر التابعين بجمع الأصول، وعصر تابعي التابعين بالفقه، وعصر تابعيهم بالتصوف والكلام؛ فإن العصر الذي عاش فيه الشيخ اليشرطي - وأعني أواخر العصر العثماني – كانت سمة مفكريه ورجاله، فيه، أن يكون عصر الطرقية الوسطية، التي تأخذ بكل تلك العلوم المعاصرة والتراثية في نسيج اجتماعي واحد؛ إذ كان ذلك الوقت بداية الخروج من مرحلة تاريخية ماضية تطرح الجمود وراء ظهرها، والدخول في مرحلة تاريخية أخرى قادمة، تستشرف الحاضر والمستقبل.
ففي حين جمّدت الممارسات الفقهية في معظمها تعاليم الدين في قوالب جاهزة لا روح فيها، ونأت الفلسفة بالفرد إلى عالم مُفارق مُتخيَّل يعزّز فرديته وتوحّده، جاء التصوف الطُرُقي متوسطاً بين هذه الاتجاهات كلها، فتركّز جهد شيوخه على روح المريد وعقله، متسامين به إلى موقع متوسط ومتفرّد.
الشيخ اليشرطي كان يستند إلى قاعدة الشرع، في انطلاقته التحديثية. يقول الشيخ علي نور الدين اليشرطي: ((الطريقة هي الكتاب والسنة))[41]. ويمكننا أن نعتبر هذا الحديث أحد أهم الأسس التي قامت عليها الطريقة الشاذلية اليشرطية. فهذا الحديث فيه تأكيد على أن الطريقة التي هي فرع من الطريقة الشاذلية، التي تعتبر من الطرق الصوفية الأكثر اعتدالاً، ترتبط بشكل أساسي بالشرع المحمدي، وتتخذه محوراً لعلاقات الفرد مع الأشياء من حولـه[42].
ومن خلال الأسس التي اعتمدها الشيخ اليشرطي للطريقة (الكتاب والسنة)، نجده يعيد لعلاقات المريد مع الأشياء من حولـه رصانتها ومتانتها. فالقرآن يعطي لهذه العلاقات أصوليتها دون مواربة أو غموض. والسنة تغذّي التجربة العملية للفرد من خلال مجموعة من القيم والسلوكات. إذ إن الكتاب والسنة ليسا مجرد تراث قديم، بل هما فاعلية متجددة في الزمان والمكان.
ولتحقيق ذلك الارتباط، يدعو الشيخ اليشرطي إلى أربع فاعليات مستمدة من الكتاب والسنة. ويعتبرها أركاناً للطريقة، وهذه الفاعليات هي: المحبة، والذكر، والفكر، والتسليم. مؤكداً أن المحبة قطب تدور عليه الدوائر. (( فمتى أحببته ذكرته. ومتى ذكرته فكّرت فيه، وسلمت أمرك إليه ))[43]. مستشهداً بقوله تعالى:)فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً([44]. إن تلك الفاعليات ترتبط، في منظور الشيخ اليشرطي، بأسس الطريقة (الكتاب والسنة). فالذكر هو لبّ القرآن، بما هو متعبد بتلاوة كل حرف فيه؛ والفكر هو محتوى السنة، بما هي تفسير وتعميق لمفاهيم الشرع؛ والمحبة هي جماع الروابط، ولُحمة العلاقات التي تجمع المريد بكل ما حوله؛ أما التسليم فهو الوجه الآخر للطريقة الصوفية، إذ هو ببسيط العبارة تسليم لله أولاً، وللشيخ، بما هو دليل ومرشد إلى الله، ثانياً. وهنا، يفسر لنا الشيخ هذا الارتباط، فيقول في أحد أحاديثه: ((الطريق ذكر الله ومحبة الشيخ ))[45].
إن الشيخ اليشرطي كان يفهم الشريعة من منظور وسطي، يجمع بين الوجود الحسي المادي (عالم الـمُلْك)، والوجود الغيبي المُفارق (عالم الملكوت)، وما يناسب عالم الـمُلك هو كلام القرآن ( الفرقان )، بمخارجه وحروفه وتفسيره، وكلام الأحاديث النبوية؛ أما ما يناسب عالم الملكوت فهو روح القرآن (الذِكْر )، بما هو كلام إلهي مُنزل في اللوح المحفوظ. واستجابات المريدين، هنا، متفاوتة ومتدرجة. فمنهم من يكتفي بأن يكون علمه مقصوراً على شرعية النص الديني، أو حرفية الكلام الإلهي، بما هو تعاليم،ومعاملات، وأوامر، ونواهي. ومنهم مَن يسعى إلى التعمّق في النص للوصول إلى روحه. فقد فسّر الشيخ اليشرطي معنى قولـه تعالى:} وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً{[46]، معتبراً أن الله جعل الأعمال في الأُمّة الإسلامية على قسمين: ما هو واجب على العبد تجاه الحق، عز وجل، كامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتقرب إلى الله بالعبادات والطاعات؛ وما يتعلق بالمخلوقات ومعاملاتهم. والشيخ يرى أن الوسطية التي تميزت بها هذه الأمة، تجعل الأمور متوازنة، ((لا تطغى فيها أشياء الحق على أشياء الخلق، ولا تبغي فيها أشياء الخلق على أشــياء الحق ))[47].
من هذا المفهوم يجب أن لا يكتفي المُريد بالوقوف عند الرسوم والأشكال الشرعية الظاهرية؛ بل هو مُطالب بأن يسعى نحو العمق، لكن هذا العمق، الذي يطالب به الشيخ اليشرطي، يجب أن لا يمسّ بالتوازن الوسطي، بمعنى أن لا تعلو كفة ظاهر التكاليف الشرعية على روحانية العبادات، أو العكس. يقول الشيخ اليشرطي، موضحاً معنى الآية الكريمة }وزنوا بالقسطاس المستقيم {[48]: ((للميزان كفتان: الأولى شريعة، والثانية حقيقة. ولا بد للفقير من أن يعطي لكلّ منهما حقها))[49]. بل يجب، دائماً، أن يربط المريد بين كل عبادة ظاهرية ومعناها، لأن ((الصلاة بلا حضور كالجثة بلا روح))[50].
إذن، فإن أول مظاهر التحديث عند شيخنا، تكمن في توسيعه لمفهوم الشريعة والحقيقة، ليشملا علاقة الإنسان بالحياة، بمعناها الواسع. لذا، فقد أصبح الشيخ اليشرطي يحبّب إلى مريده التعمق في كل معاني الحياة، بما فيها الأمور الشرعية؛ ولذلك دفعه للاعتقاد بأنه سيجد، تحت كل حكم شرعي، وحياتي، كنزاً من كنوز الحقيقة والمعرفة الباطنية، حتى لا ينزلق المريد وراء المعرفة الصوفية، معرضاً عن ظاهر العبادات، أو مجمل التعاملات الحياتية.
ولتوضيح فلسفة الشيخ اليشرطي، في هذا الجانب، نجده، في أحد مجالسه، يسأل أحد مريديه، وهو الشيخ إسماعيل الخطيب الطوباسي، عن إقامة الصلاة. فقال الطوباسي: هي في تكبيرات الإحرام الأربع. فقال الشيخ اليشرطي: ((تكبيرات الإحرام الأربع، هي عبودية الأسماء الأربعة: (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن). وما دام الإنسان جزءاً من الوجود، من حيث بشريته؛ والوجود جزءاً مِن الإنسان، مِن حيث حقيقته؛ فيجب على الإنسان أن يجمع صلاة الوجود بصلاته. والوجود جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان. ولكلّ واحدٍ من هؤلاء صلاة. لذلك، كانت صلاة الإنسان جامعة. فإذا قال الإمام: "الله أكبر "، ووقف المصلي بين يدي ربه، فهو كالجماد، في حالة وقوفه، لا يتحرك بنفسه ولا بغيره. فإذا قال الإمام: "الله أكبر"، وأحنى المصلّي القوس، فهذا الانحناء كالنبات المتحرك بغيره لا بنفسه. والسجود كالحيوان المتحرك بنفسه وبغيره، ومجموعها صلاة الإنسان. فالمقصود منه أن يجمع المصلي صلاة الوجود بصلاته، لا من ناحية أفعال الصلاة، بل بالحضور التام، والاستغراق الكلي بالله. فيخلق الله من هذا العمل مَلَكاً، اسمه (الصلاة)، يسبّح الله . والمصلّي مطالب بإقامة الصلاة، وإحياء هذا المـَلَك))[51].
إذن، فما يريد الشيخ اليشرطي أن يجمع جهود مريديه للوصول إليه، إنما هو عدم الفصل ما بين الشريعة والحقيقة، وبالتالي ما بين العبادة والفكر، وما بين العمل والتأمل فمفاهيم الوجود تجتمع كلها في الإنسان، والإنسان كله مجموع في القلب. ودور العقيدة: شريعة وحقيقة، هو تصفية هذا القلب، وتحقيق التوازن ما بين الإنسان والوجود؛ الإنسان بشقيه: المادي والروحي، والوجود بشقيه: المشهود والغيبي؛ إذ إن كمال الرؤية المحمدية، وكمال الوراثة المحمدية، يتطلب أن لا يظل هذا الكمال حبيس نظرة روحية مجرّدة، بل هو كمال إسلامي شامل لجميع نواحي الحياة، ترجمته سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم[52].
ومن هذا المنطلق، لم يتعامل الشيخ اليشرطي مع الشريعة، على أنها مجرد رادع وضابط لتصرفات المتصوف، بقدر ما هي صعود بالمتصوف من دائرة ضيّقة إلى دائرة أوسع، من دائرة (فقه الأحكام) إلى دائرة (إحكام الفقه)، أو من دائرة التعلق بالرسوم إلى دائرة طلب الكنوز التي تحت الرسوم،دون أي فصام بين الدائرتين. فالطريقة اليشرطية تبنّت خطاً أخلاقياً يوحّد بين الشريعة والحقيقة، بمعنى أن "الشريعة إجمال والحقيقة تفصيل، أو الشريعة استدلال والحقيقة كشف، أو الشريعة غيب والحقيقة شهادة "[53].
أما ثاني مظاهر التحديث لدى الشيخ اليشرطي، فهو ما يراه الشيخ من أن تحقيق هذا التوازن في حياة المريد، يأخذ طريقين: طريقاً صاعداً، يأخذ بأسباب الشرع والعمل، أولاً: "من سلك فملـَك"[54]؛ وطريقاً نازلاً، لا يأخذ بالأسباب، في البدايات، بل يعتمد على الإلهام، والإشراق، والفضل " من ملـَك فسلـَك"[55]، وهذا ما عبر عنه الشيخ اليشرطي في حديثه، لمفتي عكا الشيخ علي ميري: ((لكل مؤمن ميراث محمدي، فبأي شيء يناله؟!)) فقال الشيخ اسماعيل الطوباسي: يناله بالفضل. وأجاب الشيخ علي ميري: بالاجتهاد. فقال الشيخ اليشرطي: ((لا. لا. يناله باتباع السنة المحمدية))، واستشهد بقول الله تعالى:)قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني، يحببكم الله([56]، وقوله، في الحديث القدسي:)لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه...([57]. وما يُفهم من هذا الحديث أن الميراث المحمدي "المعرفة" ليست - في نظر الشيخ - تتم بالعمل الشخصي، وحده، ولا بالإلهام الإلهي، وحده، بل هي تتم بكليهما معاً؛ إذ الاتباع يعني الاقتداء بالعمل والاجتهاد، والتسليم بأن المعرفة آتية من لدن الحق بمدد صاحب الوقت، أو الوارث المحمدي.
وفي هذا الجانب تتركز النظرة أكثر على علاقة المريد بمحمد، صلى الله عليه وسلم. إذ نجد الشيخ اليشرطي، شأنه شأن من سبقه من شيوخ التصوف، يعتبر محمداً فاعلية متحركة في الزمان، بتجليات مختلفة يمثلها الورثة المحمديون؛ ولذا، لا يركز المتصوف على البعد الباطن من محمد - كما هو شأن الفرق الباطنية -، في حين يركز الفقيه على البعد الظاهر منه[58]؛ بل يجد المتصوف اليشرطي لزاماً عليه التركيز على كلا البعدين من الشخصية المحمدية، ليعطي الكمال المحمدي حقه، من خلال نظرية الشيخ اليشرطي في وحدة الشهود المحمدي.
أما المظهر الثالث، من مظاهر التحديث لدى الشيخ اليشرطي فهو إلغاء المقامات، التي تعارف عليها رجالات التصوف ومؤرخوه، كمنهج يسلكه كل مريد في الطريق الصوفي. فالشيخ اليشرطي يرى أن من أبرز الإيجابيات التي ورثها عن شيخه المدني، اختصار المسافات بين المريد والمعرفة الإلهية، وذلك بإسقاط المقامات والمراتب. يقول الشيخ اليشرطي: ((بعض المتصوفين عدّدوا المراتب والمقامات، وبذلك، أضاعوا المريدين. ولكن سيدي الشيخ المدني… اختصر لنا الطريق، فقال: فقر الفقير إسقاط ياء الضمير.))[59]. إن ما يمهد له الشيخ اليشرطي بهذا الموقف، ومواقفه السابقة، هو الوصول بالمريد إلى حالة من التواصل مع الحياة ومع المجتمع، وبالتالي التوقف عن العزلة التي تفرضها مثل هذه المقامات على المريد، تحقيقاً لأهدافٍ قد لا تتحقق في هذه الحياة. فالشيخ اليشرطي يؤمن أن المعرفة والحقيقة لا تتحققان للمتصوف إلا أن يذكر الله بإخلاص، ويحب أخاه بإخلاص، ويطعم اللقمة بإخلاص[60]. إذن، فالشأن الاجتماعي هو المسيطر على الخطاب الصوفي في هذه المرحلة، على الأقل؛ لأن الشيخ يريد للمريد أن يتخطى حقبة العمل الفردي، التي عاشها المتصوفة السابقون، وينخرط في العمل الجماعي. تروي السيدة فاطمة اليشرطية أن أحد أتباع والدها[61]، جاء يستأذن شيخه في أن يترك مهنة التعليم، نظراً لتقدّمه في السن. فقال له الشيخ اليشرطي: (( ألا تعلم، يا شيخ مصطفى، أن منزلتك عند الله كبيرة؟! أنت سفير بين الحق والخلق، تلقّن آياته لخلقه)). فغيّر الشيخ مصطفى رأيه، وبقي على عمله [62].
وقد فسر لنا الشيخ اليشرطي، في موضع آخر، ما يريده من أتباعه، فقال: ((ما دمت بتقوى الله، فأكلُك عبادة، وشربك عبادة، ونومك عبادة، وكل حركاتك عبادة، في جانب الله))[63]. إذن، فحياة المريد، وممارساته الاجتماعية، أضحت جزءاً لا يتجزأ من سيره في جانب الله؛ بمعنى عدم الفصل بين ظاهر حياة المريد وباطنها.


النظرة إلى الشريعة

حين نتعمق في مواقف الشيخ اليشرطي من الشريعة، نجده قد تعامل معها بمنظارين: المنظار الأول، باعتبار الشريعة ليست مجرد ظاهر لباطن، بل هي عمق يحتاج إلى أدوات الحقيقة لكشف كنهه. وهو ينظر للشريعة، ضمن هذا الإطار، على أنها تمثل عقلانية الإسلام، كما أن التصوف يمثل روحانيته. ومن خلال المنظار الثاني، تعامل الشيخ مع الشريعة، باعتبارها تمثل الوجه الاجتماعي للطرقية من جانب، كما أنها القاعدة العامة التي تجمع أكبر عدد ممكن من الفئات الاجتماعية، من جانب آخر، لأن الشريعة قوانين اجتماعية وأنظمة اقتصادية ثابتة.
لقد حقق الشيخ اليشرطي، بفكره، وبطريقته الشاذلية اليشرطية، تلك المعادلة الوسطية، التي ما عاد العقل فيها مواجهاً للنقل، ولا الشريعة مواجهة للحقيقة، ولا الفرد منسلخاً عن الجماعة، ولا الجسد منافياً للروح، ولا الفلسفة الفردية مواجهة للطرقية الجماعية؛ بل تآلفت جميعاً في معادلة واحدة. فقد حاول الشيخ اليشرطي – بكل ما أمدّته به تجربته الصوفية؛ وما أمدّه به التراث الصوفي والواقع المعاصر من مُكنات – أن ينظم نسيجاً متآلفاً، متجانساً، في التجربة الصوفية. بحيث يتجنب الثغرات التي وقع فيها كثير من السابقين- كل ذلك بالإضافة إلى نشاطه الروحي، وما ولّده فيهم من ارتباطٍ وطيدٍ بالله وبالعقيدة-.

هم التحديث

لقد كان همُّ الشيخ اليشرطي المحافظة على خطٍ تحديثي متميّز، ينص على عدم التقوقع داخل التراث الصوفي ورجالاته وتصنيفاته؛ حتى لا تتحجر الإرادة الصوفية داخل القوالب الجاهزة؛ وبالتالي، حتى ينطلق الفكر الصوفي الخلاق في صياغة الواقع، ضمن معطيات عصره الحاضر، انطلاقاً من المقولة الصوفية "الفقير ابن وقته"[64].
وبوحي من تعاليم شيخه المدني، بدأ اليشرطي بتعديل ما اصطلح عليه الصوفية من علم المقامات، فصرّح باختزال تلك المقامات المتعددة، وردّها إلى وحدانية الفاعل الحق، أو"إسقاط ياء الضمير"[65]. كما اختط لتلاميذه منهجاً جديداً، إذ قال: ((الطريق، من الآن فصاعداً، هي الأعيان الثابتة في العلم))[66]. وهو، بذلك، يعيد مفهوم اليقين الصوفي إلى حيويته. ومن هذا المنطلق، جعل الشيخ نظريته اليقينية تقوم على أسس ثابتة وصحيحة، تنطلق، أولاً، من قواعد النصوص الدينية، أعني القرآن والحديث، فقال: ((اسند ظاهرك للكتاب والسنة، وأطلق باطنك للحق، ولا تخف من شيخك ولا من أحد))[67]. فدعوته تحمل ملامح الأصول، وملامح التحديث الذي يتوسع في فهم النص الديني، بالاستناد إلى الباطن، أو الكشف الصوفي (الإلهام).
وعلى الرغم من هذا الموقف، فإن الشيخ اليشرطي لم يُرِدْ أن يتجاوز المنهج الذي رسمه الشيخ أبو الحسن الشاذلي، والمعتدلون من أتباعه. ونحن إذ لا ننكر، هنا، تجارب توفيقية أخرى، تفرّد بها تلامذة الشيخ أبي الحسن الشاذلي؛ فإن الشيخ اليشرطي، حاول أن يقدم لنا منظومة صوفية ترقى إلى كمال الرؤية.
ويحسُن بي أن أذكّر، هنا، أنه، واستناداً إلى النظرية الصوفية في الإنسان الكامل[68]، وهي المحاولة الإنسانية للوصول إلى كمال الرؤية المحمدية الشاملة، فقد آمن الشيخ اليشرطي أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، هو الإنسان الكامل، في هذا الكون، لأنه الشخص الوحيد القادر على تقديم تلك المنظومة المتكاملة المتجانسة، التي أعجزت، وتُعجز، التنظيمات الفلسفية والاجتماعية والسياسية – إذا خلت من البُعد الروحي. لذلك قرر الشيخ، منذ البداية، أن ((الإنسان الكامل ضِمْنه الكليات والجزئيات، والعلويات والسفليات، والحيوانات والنباتات، وما كان وما يكون. وما في العالم إنسان كامل، إلا محمد، عليه الصلاة والسلام. ومَن عرفه فقد عرف الحق))[69].

محمدية الخطى

إن السير المحمدي هو النهج الأكمل للوصول إلى الصورة الشاملة للنسيج الذي يتطلع إليه الشيخ اليشرطي، ومن سبقه من شيوخ الشاذلية وشيوخ التصوف . وحتى يحقق هذا النسيج شموليته، ويدنو من الكمال المحمدي، كان لابد من معادلة جديدة لمنظومة العلاقات، تجمع بين النظرية الفلسفية والطرقية العملية. وقد أخذت هذه الصورة الشمولية بعداً هامّاً، لدى الشيخ اليشرطي، هو التميز بنظرية فلسفية معرفية، قائمة على أسس عدة، هي:
أولاً - الإلهام، وهو أساس هام من أسس المعرفة الصوفية. وقد استند إليه الصوفية منذ البدايات. فقال به المحاسبي، باصطلاح مختلف، عندما أعلن أن "البصيرة" هي الطريق الثالث للمعرفة؛ وذلك لفضّ النزاع بين "العقليين"، ويمثلهم المعتزلة؛ وبين "النصّيين"، ويمثلهم ابن حنبل. ثم، اعتمده الغزّالي وغيره، من فقهاء التصوف، الذين أكّدوا أن إدراك الحقيقة، بمعناها التام، لا يكون إلا بالكشف والذوق.
وقد لاحظت، أثناء دراستي لفكر الشيخ اليشرطي وممارساته، أنه تميّز، من بين كل هذه التيارات، بموقف يرفض الاستغراق في المعاني الفلسفية، التي يرمز لها بالمعرفة، وكذلك رفض لأتباعه الانجراف وراء الطُرقية السطحية، التي يرمز لها بالكرامات. فيقول في أحد أحاديثه: ((لا تقل كرامات، لا تقل معرفة وتحقيق، أنا ما عندي إلا الثبوت))[70]. فهو، هنا، كما هو في سائر أحاديثه، يشدد على فاعلية هامة هي استمرارية العمل والجد لإدراك "الأعيان الثابتة"، التي هي، بحسب رؤية الشيخ اليشرطي: "السر المحمدي" الذي ((...ما ثبت الوجود عيناً، إلا بذاته الشريفة، صلى الله عليه وسلم، فهو عين كل موجود...))[71]، وهي معرفة (حق اليقين )، الأكثر استمراراً ونضجاً وإيجابية، من المعرفة القائمة على المعجزات والكرامات. فالشيخ اليشرطي يتبنى رؤية متميزة، ملخصها أن المعرفة الإلهية ليست مدداً سيتلقاه الإنسان من السماء فقط؛ بل المعرفة موجودة مع الإنسان، وفي الإنسان، لكنه يكون محجوباً عنها، في بداية سيره. ولذلك، اعتبر أن هذه المخلوقات مظاهر للحق، لكن بأطوار متعددة، منها ما هو ثابت، ومنها ما هو متلوّن. وهذا الأمر لا يُدرَك بالعقل المقيّد بطبيعته، بل بمعرفة الله ذوقاً وحالاً[72]. قال الشيخ اليشرطي، مخاطباً مريده الشيخ مصطفى السعدي، تعليقاً على قول الأخير للشيخ إن الفقير مثل الريشة التي في الهواء: ((أتريد أن تُخرج حالك عنها؟! الشمس والقمر من تقديراتك، والكون كله من تقديراتك، والقيامة قائمة على رأسك، أيها الإنسان))[73]. وقد اشتهر عن الشيخ اليشرطي قوله: ((كان المرشدون يقولون للمريد: ها أنت وربك. ونحن نقول له: ها أنت))[74].
ثانياً - العقل، وهو أداة هامة لتنظيم العلاقات ضمن إطار الجماعة. وقد وقف الشيخ اليشرطي موقفاً معتدلاً في تأسيس منظومة العلاقات داخل الجماعة، على أساس روحي لا يتعارض مع النص الشرعي، أولاً، ولا مع العقل، ثانياً. ولذا، نجد الشيخ يؤسس موقفه من كافة القضايا على أساس الاحتكام إلى العقل، لكن ليس العقل ببعده الرياضي، فقط، بل ببعده الصوفي الذي سيطر عليه الذوق الصوفي، أو الإلهام، حتى أصبح عقلاً "مستفاداً"، حسب اصطلاح الفلاسفة[75]. وقد أوضح الشيخ اليشرطي هذه المكنات للعقل عندما بيّن أن المعادلة القائمة بين العقل والإلهام، أو العلم الإلهي، هي معادلة تكاملية تتيح للعقل مزيداً من الاتساع، والاستيعاب، والوعي، والانطلاق نحو آفاق لم تخطر على قلب بشر، فقال: ((العلم الإلهي مطلق، والعقل والإدراك مقيدان. فإذا قوي العلم الإلهي عليهما، انطلقا بانطلاقه. وإن هما قويا على العلم الإلهي، تقيد تحت دائرة العقل والإدراك))[76].
ثالثاً - موقف شمولي من الوجود، يجمع بين الفلسفة النظرية والسلوك العملي. فقد تميزت المعرفة الإسلامية، وبخاصة المعرفة الصوفية، بتحويل القواعد العامة إلى سلوك عملي. وقد جاء الشيخ اليشرطي منسجماً مع هذا الموقف الإسلامي الأصيل، فاستمد نظرته إلى الوجود من نظرته إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، مما أعطى هذا الموقف بعداً فكرياً لا ينأى بنظريات الشيخ بعيداً عن آراء كثيرٍ ممن سبقه من شيوخ التصوف، الذين لا يفصلون بين النظرة إلى الشخصية المحمدية وبين الوجود. ولذلك، يعتبر الشيخ اليشرطي أن الله قبض قبضة من نوره هي الحقيقة المحمدية، وجعل الله منها ما كان وما يكون. فجعل منها أهل السعادة، وأهل الشقاوة [77].
من أجل ذلك، كان لابد لمن يرتبط بالحضرة المحمدية، في منهجه الفكري والسلوكي، من أن يلتزم بنظرة خاصة للشخصية المحمدية، وللواقع الوجودي المستمد من هذه الشخصية. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن هذا الموقف من الوجود أفرز لنا نظرية صوفية ذات السمات التالية:
1. علاقة متميزة بمحمد، صلى الله عليه وسلم، بما تعنيه الشخصية المحمدية من تراث إسلامي وصوفي، يمتد أثرها، إلى عصرنا المعاش، عبر الورثة المحمديين. وهذا ما حافظ على البُعد الفكري والروحي للطرقية، حيث نجد الشيخ اليشرطي يؤكد ارتباطه المطلق بالحقيقة المحمدية، فيقول: (( أنا ما عندي إلا محمد. شهودي محمدي، وأكلي محمدي، وشربي محمدي...))[78]. فالشيخ الذي يشكل المحور الأساسي في الجماعة الصوفية، أو الطريقة، هو امتداد للشخصية المحمدية. وإن لم يكن له هذا البعد، فلا معنى لالتفاف الجماعة حوله. يقول الشيخ اليشرطي، في هذا الصدد، مخاطباً مريديه: ((أفنوا أنفسكم في شيخكم، وأفنوا شيخكم في محمد، صلى الله عليه وسلم، وأفنوا محمداً في الله. واجعلوا ظاهركم شريعة، وباطنكم حقيقة))[79]. إن مثل هذا الموقف من الشخصية المحمدية، هو ما دفع (تريمنغهام) إلى اعتبار الطريقة اليشرطية من أبرز الطرق التي قامت على تحديث التصوف، في القرن العشرين، وذلك برفض كون الذكر توحّداً(UNIFICATION) مع الله، بل هو وحدة (UNITY) مع النبي[80]. وبناءً على هذه القاعدة، يوجّه الشيخ اليشرطي مريديه لإقامة علاقة المحبة الدائمة، وحسن الظن، بينهم وبين شيخهم، بل يدعو مريديه للتسامي في العلاقة مع شيخهم، حتى تصبح مواردهم أسمى من ذي قبل. فمن اعتقد بشيخه ولياً، أتاه المدد من الولاية. ومن اعتقده ملاكاً، يأته المدد من المَلَكية. ومن اعتقده مرشداً، يأته المدد من الإرشاد[81].
2. الشمولية الاجتماعية والحياتية، بمعنى وضع منظومة متطورة من العلاقات داخل المجتمع الصوفي والحياة الطُرقية، حيث نجد الشيخ اليشرطي يعتبر الإنسان ببعديه: الظاهر (الشرع )؛ والباطن (الحقيقة )، محوراً لعلاقات مستمرة ومتصاعدة مع المجتمع والوجود. فالإنسان هو مركز الوجود. يقول الشيخ اليشرطي: (( الإنسان جزء من الوجود، من حيث بشريته. والوجود جزء من الإنسان، من حيث حقيقته))[82]. وهذه المركزية الوجودية تساعد الإنسان على إقامة علاقات متوازنة مع الأشياء من حوله، وتسخير مظاهر الطبيعة له. وقد تمثّل هذا الموقف في إيلاء الشيخ الأهمية لكل جزئيات الوجود البشري، بتعادل وتوازن، دون غلبة جانب على آخر، فقال لمريديه: (( وهذه المخلوقات مظاهر الحق. والأطوار متعددة، منها ثابت، بثبوته بكل متلون؛ ومتلوّن، بتلوّنه بكل ثابت))[83]. كما طلب من المريد أن يتعامل مع الأشياء من حوله بحرّية وثقة، معطياً الأمور حقها، فقال: (( يجب أن تجبر نفسك على الطاعات والعبادات، وتبحبحها بالمباحات، وتحذرها وتزجرها عن المحرمات))[84].

خاتمة

نستطيع أن نقول في خاتمة بحثنا،هذا، أن الشيخ اليشرطي كرّس كل ما تعنيه الحياة الطُرقية لخدمة الفرد، وتحقيق تواصله مع الجماعة. وبالتالي، طلب من مريديه ترجمة العبادة والنظريات الفكرية إلى تعايش واقعي، ينصبّ على التكافل الاجتماعي، وخدمة الجماعة. معتبراً أن إطعام الجوعان، وكسوة العريان يوصلان إلى المقام المحمود[85].
وهذا الفكر لم يبق أسير كتب فلسفية أو أشعار وجدانية، بل سعى الشيخ علي نور الدين اليشرطي إلى تحقيقه على أرض الواقع، من خلال طريقة صوفية يشرطية المسار، شاذلية المنهج، محمدية المشرب. حملها أبناء وخلفاء الشيخ اليشرطي من بعده، وانتشر أتباعها ينشرون المحبة والأخوة والتعاون وعمق المفهوم الديني، في بلاد الشام والخليج العربي وإفريقيا والأمريكيتين وكندا والبرازيل.



الهامش:


*هذه الدراسة مستلة من أطروحة دكتوراة قدمت للجامعة اللبنانية بعنوان " المدرسة الشاذلية اليشرطية، وشيخها الشيخ علي نور الدين اليشرطي "، لكاتب هذه الدراسة (بتصرف).
[1] هناك عدد من فلاسفة المسلمين الكبار الذين تصوّفوا أو تأثروا بالفكر الصوفي؛ أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: المحاسبي (ت 243هـ/ 857م) والرازي (ت 258هـ/ 872م) والفارابي (ت340هـ/ 951م) وابن سينا (ت 428هـ/ 1037م) والغزالي (ت 505 هـ/1111م) وابن طفيل (ت581هـ/ 1185م) وابن الخطيب (ت 776هـ/ 1374م) وابن خلدون (ت 808هـ/ 1406م).
[2] ترى د.سعاد الحكيم أن هناك تيارين صوفيين تقابلا على امتداد خمسة عشر قرناً، أحدهما يمثل تصوف السلوك الذي يقوم على الجهد الإنساني وتأديب النفس ويمثله الجنيد والحسن البصري والغزالي؛ وثانيهما يمثل تصوف الحال الذي يسبق العمل ويمثله الحلاج ورابعة وابن عربي. انظر: لها، التصوف والثقافة الصوفية في عهد المماليك، ورقة مقدمة لمؤتمر (آرام ) الثامن بالجامعة الأمريكية في بيروت، 1997م. ونجد ما يماسّ هذا التصنيف الثنائي لدى سبنسر ترمنغهام، في كتابه الفرق الصوفية في الإسلام. حين يقول إن هناك مدرستين متقابلتين في تاريخ التصوف، هما مدرسة الجنيد العراقية القائمة على الصحو؛ ومدرسة البسطامي الخراسانية القائمة على الغيبة. انظر: الترجمة العربية للكتاب، وضع عبد القادر البحراوي، طبعة بيروت: النهضة العربية، 1997م، ص ص 26-27.
[3] أي التي تهتم بالكرامة، بالدرجة الأولى، كدليل على صدق حال الصوفي.
[4] الشطح، عند المتصوفة، هو " عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته… فكذلك المريد الواجد: إذا قوي وجده، ولم يطق حمل ما يرد على قلبه من سطوة أنوار حقائقه، سطع ذلك على لسانه، فيترجم عنه بعبارة مستغربة مشكلة على مفهوم سامعيها، إلا من كان من أهلها…" انظر: الطوسي، اللمع، ص ص 453-454
[5] مصطفى نجا، كشف الأسرار لتنوير الأفكار، الطبعة 6، دون مكان: دون ناشر، 1997م، ص 4.
[6] انظر: اليشرطية، فاطمة، رحلة إلى الحق، الطبعة4، دون مكان: دون ناشر، 1997م، ص 171.
[7] رشيد الذوادي، أعلام من بنزرت، تونس: المغرب العربي، 1971م، ص 21.
[8] البيطار، عبد الرزاق، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تحقيق محمد بهجة البيطار، دمشق: المجمع العلمي العربي، 1963م.
[9] انظر: اليشرطية، رحلة، ص 172؛ وانظر: نجا، كشف، ص 4.
وقد تناقل عن البيطار، هذا الخطأ في اسم والد الشيخ اليشرطي، معظم الذين أرّخوا له كمحمد الطباخ والزركلي والذوادي وجوزيف فان إس.
[10] انظر: حلية البشر، ص 1065.
[11] اليشرطية، رحلة،ص 172.
[12] م.ن، ص 172.
[13] بُشرت والدة الشيخ اليشرطي به من قِبَل الولي الشيخ محمد جلول، حسب ما تذكر ابنته فاطمة. م.ن، ص 173.
[14] م.ن، ص 177.
[15] انظر: له، أعلام، ص ص 21-23.
[16]م.ن، ص 22.
[17] م.ن، ص 22؛ نقلاً عن كتاب تونس عبر التاريخ، ص 267.
[18] الذوادي، أعلام، ص 22.
[19] م.ن، 23.
[20] انظر: الطاهر المعموري، جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهدين الحفصي والتركي من سنة 603 هـ/1206م–1117هـ/ 1705م، تونس: العربية للكتاب، 1980م، ص24 و39.
[21] الذوادي، أعلام، ص 23.
[22] اليشرطية، رحلة، ص 180.
[23] م.ن، ص 182.
[24] يقول توفيق الطويل، واصفاً هذه الطريقة: "وطريقتهم أنهم يجلسون قبالة بعضهم صفين،ويقولون كلاماً معوجاً بلغتهم، بنغم وطريقة مشوا عليها، وبين أيديهم طبول ودفوف، يضربون عليها على النغم ضرباً شديداً مع ارتفاع أصواتهم … "، انظر،له: التصوف في مصر إبان العصر العثماني، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م، ص 82. وهو ينقله عن عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج3، القاهرة: لجنة البيان العربي، 1964م، ص 41.
[25] اليشرطية، رحلة، ص 182-183.
[26] محمد بن مخلوف، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، بيروت: دار الكتاب العربية، دون تاريخ، ص 383؛ وعند محمد الفاسي، الفتوحات الربانية، في تفضيل الطريقة الشاذلية، القاهرة: مطبعة المعاهد، 1921م، أن الشيخ المدني توفي سنة 1264 هـ، ص ص 43-46.
[27] يذكر زكي مجاهد في الأعلام الشرقية أن الشيخ ظافر المدني الأب أرسل ولده محمد المدني إلى تونس مع الشيخ أحمد عبد الوارث، حيث اجتمع، بعد ذلك، بعلامة إفريقيا، آنذاك، إبراهيم الرياحي. انظره، الطبعة 2، بيروت: الغرب الإسلامي، 1994م، ج 2، ص590.
[28] اليشرطية، رحلة، ص ص 183.
[29] البيطار، حلية البشر، ج2، ص 1065.
[30] اليشرطية، رحلة، ص ص 207-208.
[31] م.ن، ص 207.
[32] م.ن، ص ص 215-218.
[33] "عكة"، من أقدم مدن العالم، أقامها العرب الكنعانيون ( الفينيقيون ). وكانت أول ميناء عربي غزا منه المسلمون، بقيادة معاوية بن أبي سفيان، أولى غزواتهم في البحر الأبيض المتوسط.
وفي العهد العثماني، عاد لعكا مجدها، بعد أفولٍ، وخاصة، بعد أن سمح السلطان سليمان القانوني لأصحاب الامتيازات الأجنبية بتأسيس مركز المدينة التجاري. كما اكتسبت المدينة شهرة، وقوة، ومنعة، أثناء ولاية الأمير فخر الدين المعني الثاني (1595-1634م)، الذي تمكن من أن يمد حكمه ( تحت السيطرة العثمانية ) على قسم كبير من فلسطين. كما علا شأن المدينة في عهد ظاهر العمر في نحو عام 1750م، حيث اتخذها عاصمة له. وكذا الأمر، في ولاية أحمد باشا الجزار (1775-1804م )، الذي هزم الحملة الفرنسية على المدينة، بعد أن زاد تحصينات عكا، "وأنشأ العمارات، وغرس مختلف الأشجار، وأقام سوقاً وحماماً وثكنة عسكرية، وجر مياه نبع الكابري إلى المدينة.. لكن أهم منشئاته جامعه الفخم الذي يحمل اسمه.. وضمن الجامع مدرسة تدرس فيها علوم الشرع والفقه، ومكتبة حملت اسم [المكتبة الأحمدية]".
ونقل الدباغ، عن كتاب ولاية بيروت القسم الجنوبي، لرفيق التميمي وبهجت الكاتب (ط 1335هـ)، أن أهل عكا متدينون، ولكنهم غير متعصبين. وتنتشر فيها المساجد والطرق الصوفية، مثل الشاذلية والرفاعية.
انظر: مصطفى الدباغ، بلادنا فلسطين، ج7، ق2، كفر قرع: دار الهدى، 1991م، ص188، و243-248، و309.
[34] م.ن، ص 245.
[35] حديث { طوبى لمن رأى عكة } ورد عند القزويني، في كتابه: آثار البلاد، ص 223؛ وكذلك ذكره محمد بن أبي بكر الرازي، صاحب مختار الصحاح، ط بيروت: الفكر العربي، 1997م، عند تعريفه بعكا. كما جاء في كتاب تراث فلسطين في كتابات عبد الله مخلص، لكامل العسلي، ص124، أن هذه الأحاديث قد سردها، الشيخ محمد بن شيخ الإسلام جعفر الكتاني الحسني،في كتابه: شفاء الأسقام والآلام بما يكفّر ما تقدم وما تأخر من الذنوب والآثام، ص43.
[36] اليشرطية،رحلة،ص 210.
[37] تقع بلدة ترشيحا في الشمال الشرقي من عكا. وهي بلدة جبلية، تعلو حوالي500 متر عن سطح البحر. ولذا، فهي تمتاز بنقاء هوائها وجمال طبيعتها، وتشتهر بزراعة الزيتون والدخان. انظر: الدباغ، بلادنا، ج7، ق2، ص ص 421-423.
[38] م.ن، ص48.
[39] م.ن، ص 65.
[40] اليشرطية، رحلة، ص ص212-213.
[41] اليشرطية، نفحات، 57.
[42] المنوفي، محمود، جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف، ج2، القاهرة: الحلبي، 1967م، ص ص 221-222.
[43] اليشرطية، نفحات، ص 64.
[44] الآية 65، من سورة النساء.
[45] اليشرطية، نفحات، ص 57.
[46] سورة البقرة: الآية 143.
[47] اليشرطية، نفحات، ص 434.
[48] سورة الشعراء، الآية 182.
[49] اليشرطية، نفحات، ص 374.
[50] م. ن، ص 560.
[51] م. ن، ص ص431-432.
[52] سعاد الحكيم، مقدمة كتاب الإسرا إلى المقام االأسرى، لابن عربي، ص 10.
[53] الشرقاوي، حسن، الحكومة الباطنية، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992م، ص 24.
[54] هذا النص مأخوذ من الصلاة المشيشية، التي تسمى لدى اليشرطية بالوظيفة، أو الورد الأكبر.
[55] وهذا النص، أيضاً، مأخوذ من الصلاة المشيشية.
[56] سورة آل عمران، الآية 31.
[57] اليشرطية، نفحات، ص ص402-403؛ والحديث النبوي رواه البخاري.
[58] الحكيم، سعاد، عودة الواصل: دراسات حول الإنسان الصوفي، بيروت: دندرة، 1994م، ص 49.
[59] اليشرطية، نفحات، ص ص73-74.
[60] م. ن، ص 444.
[61] وهو الشيخ مصطفى الترك، كان يدرّس العلوم الدينية والقرآن الكريم، في مدينة حمص السورية.
[62] اليشرطية، نفحات، ص 663.
[63] م. ن، ص 311.
[64] اليشرطية، نفحات، هامش ص 162.
[65] م. ن، ص ص 73-74.
[66] م. ن، ص 59.
[67] م. ن، ص 77.
[68] تبنـّى نظرية الإنسان الكامل بعض فلاسفة التصوف، وخاصة ابن عربي في رسالته المخطوطة (الإنسان الكلي )، ومن بعده عبد الكريم الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر).
[69] اليشرطية، نفحات، ص 139.
[70] م. ن، ص 591.
[71]م. ن، ص 168.
[72] م. ن، ص 168.
[73] م. ن، ص 477.
[74] م. ن، ص 346.
[75] أطلق الفارابي اصطلاح "العقل المستفاد" على العقل في أسمى درجات تطوره، وعند قدرته على استشراف المعارف الإلهية؛ انظر له: آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، بيروت: الهلال، 1995م، ص 120.
[76] اليشرطية، نفحات، ص 162.
[77] م. ن، ص 169.
[78] م. ن، ص 409.
[79] م. ن، ص 299.
[80] Trimingham , The Sufi Orders , P.106؛ وتريمنغهام، هنا، ينظر للطريقة الشاذلية اليشرطية كأحد فروع الطريقة الشاذلية المدنية، التي، بدورها، كانت أحد فروع الشاذلية الدرقاوية.
[81] اليشرطية، نفحات، ص 298.
[82] م. ن، ص ص 476-477.
[83] م. ن، ص 168.
[84] م. ن، ص ص 674-675.
[85] م. ن، ص 581.

حقوق الطبع والنشر والاقتباس محفوظة للمؤلف